**سلمان رشدي يواجه الفناء والإرث في "الساعة الحادية عشرة": رحلة أدبية ما بعد الاغتيال**
كتاب جديد بعد محاولة الاغتيال
في عالم يتسارع فيه
الزمن، وتتلاطم أمواجه بين الواقع والأسطورة، يبرز اسم سلمان رشدي كواحد من ألمع
الأصوات الأدبية المعاصرة، ليس فقط لثراء أعماله الفنية، بل لقصته الشخصية التي
تجاوزت حدود الأدب لتلامس صميم الصراع الإنساني من أجل حرية التعبير.
![]() |
| **سلمان رشدي يواجه الفناء والإرث في "الساعة الحادية عشرة": رحلة أدبية ما بعد الاغتيال** |
وبعد محاولة الاغتيال المروعة
التي تعرض لها عام 2022، والتي كادت أن تودي بحياته، يعود رشدي ليقدم لنا مجموعته
القصصية الجديدة "الساعة الحادية عشرة" (The
Eleventh Hour)،
وهي ليست مجرد مجموعة قصصية عادية، بل هي تأمل عميق في الموت، الهوية، الإرث،
ومغزى الكتابة في عالم مضطرب. هذا العمل الأدبي، الذي يأتي بمثابة صرخة فنية من
قلب التجربة الإنسانية الأقسى، يستحق وقفة تأمل وتحليل معمق.
**"الساعة الحادية عشرة" نافذة على روح رشدي المتجددة**
تُعد "الساعة الحادية عشرة" أول عمل أدبي لرشدي بعد حادثة الطعن التي فقد فيها بصره في عينه اليمنى، والتي وثقها بشجاعة في مذكراته "سكين: تأملات بعد محاولة اغتيال" (Knife: Meditations After an Attempted Murder). هذا السياق الشخصي يمنح المجموعة ثقلاً خاصاً، فالموت والفناء يبرزان كأحد المحاور الكبرى التي تدور حولها القصص. في قصة "متأخرة" (Late)، وهي واحدة من ثلاث قصص طويلة تقارب حجم الرواية في المجموعة، يستكشف رشدي بمرارة لا مبالاة العالم تجاه الموت، وكيف أن "أنت تحييه وتمضي".
هذا الطرح الفلسفي ليس جديداً على رشدي الذي عاش لعقود تحت تهديد الفتوى، لكنه يكتسب هنا بعداً وجودياً أعمق، متجذراً في تجربة شخصية مؤلمة.
تضم المجموعة خمس قصص
اثنتان منها نُشرتا سابقاً، وتتنقل أحداثها بين البيئات الثلاث التي شكلت هوية
رشدي: إنجلترا، الولايات المتحدة، ومسقط رأسه الهند. هذا التنقل الجغرافي ليس مجرد
خلفية للأحداث، بل هو انعكاس لتعدد الهويات التي يعالجها رشدي في أعماله، والشعور الدائم
بالتنقل الذي يصفه في المجموعة من خلال عبارة "مدينتها بعيدة. أصبحت الكتب
وطنها الآن". هنا، تصبح الكتب ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل ملاذاً ووطناً
للروح، خاصة لكاتب عايش الاغتراب والتهديد المستمر.
**المواضيع المتجددة الهوية، الأسطورة، وحرية التعبير**
لا يغفل رشدي في "الساعة
الحادية عشرة" عن مواضيعه المتكررة التي بنى عليها صرحه الأدبي منذ روايته
التجريبية الأولى "غريموس" (Grimus)
عام 1975. فالهوية، الهجرة، الأسطورة، حرية التعبير،
والسعي وراء الحقيقة، كلها تتجلى في هذه المجموعة بقوة متجددة.
القصة الافتتاحية "في الجنوب" (In the South)
التي نُشرت أصلاً في مجلة "نيويوركر"
عام 2009، تُعد من أبرز القصص في المجموعة. تقدم لنا شخصيتين مسنتين، "جونيور
ڤي" و"سينيور ڤي"، يعيشان في تشيناي ويتجادلان يومياً حتى الموت،
ومع ذلك يذهبان معاً لصرف معاشيهما. هذه الصورة الساخرة للحياة اليومية تتحول إلى
تأمل مؤلم في الفناء البشري و"التآكل البطيء للجسم البشري". ومع وقوع
كارثة التسونامي عام 2004 كخلفية مجازية، يطرح رشدي تساؤلات وجودية حول "لماذا
لم يطلني القدر أنا؟" ومعنى الحياة وعدميتها، مقدماً رؤية عميقة لهشاشة الإنسان
أمام قوى الطبيعة والقدر.
**الدراما الإنسانية والرمزية في "عازفة كاهاني"**
القصة الثانية، "عازفة
كاهاني" (The Musician of Kahani)، هي الأكثر درامية والأشد حيوية بين قصص
المجموعة. هنا، يعود رشدي إلى مومباي، مسقط رأسه، ليقدم حكاية مشبعة بالجناس
واللعب اللغوي، تستعرض تقلبات الشهرة والنجاح. شخصية تشاندني، الموسيقية المفرطة
العبقرية والموهوبة التي تسعى لتوجيه مصيرها في عالم يهيمن عليه الرجال، تعكس روح
التمرد الموجودة في أعمال رشدي السابقة، مثل الأميرة قارا كوز في "ساحرة
فلورنسا" (The Enchantress
of Florence).
تتقاطع حياة تشاندني مع ماجنو، لاعب الكريكيت الشهير
في قصة حب تعتمد على العبارات المألوفة مثل "سهام
الحب لا تعرف من تصيب". يبرع رشدي في السخرية من والدي ماجنو الثريين، اللذين
يباليان فقط بـ"سمعة العائلة"، لكنه يعاني أحياناً من بعض النكات
الركيكة والحوارات المباشرة التي لا ترقى إلى مستوى براعته المعتادة. وعلى الرغم
من حيوية الحبكة التي تتناول الجماعات الجنسية الطقسية، جنون الإنترنت والإعلام،
والظواهر الخارقة للطبيعة، فإن القصة لا تتماسك لتشكل تجربة متكاملة ومرضية، مما
يجعلها أقل ابتكاراً مقارنة بقصص مجموعته السابقة "شرق، غرب" (East, West).
**تأملات في الإرث والاغتراب من "متأخرة" إلى "أوكلاهوما"**
تظل قصة "متأخرة"
الممتدة على 73 صفحة، إحدى القصص التي تحمل أثراً عميقاً ومؤثراً. من خلال حياة ما
بعد الموت لأستاذ جامعي بريطاني تتواصل روحه مع طالبة هندية، يستكشف رشدي مفهوم
الإرث والانتقام من الظلم في حقبة القمع الجنسي. يعود موضوع الفناء ليؤكد على أننا
"جميعاً ننتهي مثل قطعة سكر تذوب ببطء في الماء"، وهي استعارة بليغة لزوال
الوجود.
وفي قصة "أوكلاهوما" (Oklahoma)،
التي تتأثر برواية فرانز كافكا غير المكتملة "أميركا" (Amerika)، يتأمل رشدي فكرة الاختفاء والاغتراب. يحقق
كاتب شاب فيما إذا كان معلمه قد زيف موته، وتتحول القصة إلى تأمل في رحلة الكتابة
نفسها، وعلاقة الكاتب بشخصياته، وحدود الواقع والخيال. هذه القصة ذات البنية
المحكمة تبرز رعب التغيير وتساؤلات رشدي عن دوره ككاتب في عالم دائم التحول.
**"الشيخ في الساحة" حرية الاختلاف وتحديات العصر**
تختتم المجموعة بقصة "الشيخ
في الساحة" (The Old Man in the Piazza)، التي نُشرت أول مرة عام 2020. تدور
أحداث القصة في مكان غامض حول رجل يجلس يومياً في مقهى، ويتحول فجأة من مراقب إلى
حكم في نزاعات الجميع. هذه القصة الرمزية، التي تمثل تقدير رشدي لإيتالو كالفينو،
لا تقتصر سخريتها على الكسل الفكري فحسب، بل تمتد لتكشف كيف يمكن لأبسط طموح بالسلطة
أن يغري حتى أضعف الناس.
- لكن الجانب الأكثر عمقاً في هذه القصة هو التركيز على تغير اللغة والنقاشات حول الخطاب المقبول
- وحرية الاختلاف. من هو أفضل من سلمان رشدي، الذي أمضى عقداً كاملاً مختبئاً بعد فتوى "الآيات
- الشيطانية"، ليتحدث عن ضرورة هذه الحرية؟ هذه القصة هي بمثابة صرخة مدوية في وجه التضييق
- على حرية التعبير، وتأكيد على أهمية الدفاع عن
حق الاختلاف في الرأي.
**رشدي في الـ78 صوت أدبي لا يزال يصدح**
"الساعة الحادية
عشرة" هي إضافة قيمة إلى رصيد رشدي الذي يضم 13 رواية، وتمزج ببراعة بين
التاريخ، الأسطورة، السياسة، والهوية. أفضل أعمال رشدي، مثل "أطفال منتصف
الليل" (Midnight’s
Children) الفائزة بجائزة البوكر، و"العار" (Shame)، و"الأرض تحت قدميها" (The Ground Beneath Her Feet)، تتجاوز حدود
الثقافات لتصل إلى العالمية.
في سن الـ78، وبعد تجربة الموت الوشيك
لا يزال سلمان رشدي يقدم لنا أعمالاً مؤثرة تتحدى التفكير
التقليدي وتدفع بالقارئ إلى تأمل أعمق في معنى الوجود. إن لحظات التأثر العميق في "الساعة
الحادية عشرة"، مثل تجول الراوي في مومباي واستعادته لذكريات منسية: "أزور
أيامي الماضية للمرة الأخيرة وهي تزورني. لن أمر بهذا الطريق مرة أخرى"،
تجعلنا ندرك أننا أمام كاتب لا يزال يمتلك الكثير ليقدمه.
فى الختام
"الساعة الحادية عشرة" ليست مجرد مجموعة قصصية؛ إنها شهادة على صمود الروح البشرية، وقوة الأدب في مواجهة الظلم، وتأكيد على أن صوت سلمان رشدي، رغم كل التحديات، لا يزال واحداً من أهم الأصوات في الأدب المعاصر، يستحق الاحتفاء والتقدير
. هذا العمل يمثل
دعوة لنا جميعاً للتأمل في قيمنا، وفي هشاشة حياتنا، وفي القوة الهائلة للكلمة.
